محمود درويش**حياة وعلم وادب**
صفحة 1 من اصل 1
محمود درويش**حياة وعلم وادب**
يختلط البعد الذاتي بالبعد الجماعي في شخصية محمود درويش حتى ليغدو مستحيلاً الفصل بينهما. هذا الشاعر الذي يمثل الضمير الحيّ لفلسطين وشعبها، هو أيضاً ذاكرة الحياة الملحمية التي عاشها الفلسطينيون، والمخيلة التي ترنو الى مستقبل قد لا يكون ناصعاً جداً.
قدر هذا الشاعر ان يتحمّل وطأة القضية من غير ان ينوء بها، وقدر القضية ان يكون محمود درويش شاعرها الذي عرف كيف يفتح أمامها آفاق المستحيل. خرج الشاعر في مقتبل عمره من فلسطين المحتلة الى المنفى الكبير، وعاد بعد ثلاثين سنة من المنفى الكبير الى فلسطين التي لم يجدها، بل وجد جزءاً منها، جزءاً ما برح محاصراً بالخوف والقلق: «الطريق الى البيت بات اجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي». ولا غرابة ان يصف ما تبقى من فلسطين بـ «السجن» القائم على الانقاض. ويقول: «لا أستطيع ان أتكلم عن فلسطين الآن إلا بكثير من الإحباط». انها العودة التي رسمها اتفاق أوسلو، هذا الاتفاق الذي كان محمود درويش من اوائل الذين تشاءموا منه. كان حدسه حينذاك مصيباً جداً. ففي رأيه ان منظمة التحرير تعجلت في توقيع هذا الاتفاق، ولو عرفت مدى حاجة اسرائيل الى اتفاق معها لتفتح ابوابها على العالم العربي، لكانت المكافأة الفلسطينية أكبر. كانت اسرائيل في حاجة حينذاك الى الفلسطينيين ليكونوا حراس «البوابة» المفتوحة على العرب. لكن الاتفاق سرعان ما حوّل ما تبقى من الارض «سجناً كبيراً» كما يقول الشاعر. أما عن ياسر عرفات الذي يعتبره رمزاً وطنياً فيقول: «نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر».
ويرى درويش ان الفلسطينيين لم يبق امامهم سوى خيارين: «إما الحياة وإما الحياة». لكنهما حياتان في منفى داخلي واحد، وعلى ارض واحدة. عاد محمود درويش الى فلسطين لكنه لم يجدها. فلسطين في القصائد اجمل من فلسطين الراهنة. لم يجد ايضاً بيته. وجد امه التي ما برحت تعدّه الابن الأحب لأنه كان دوماً الابن الغائب. لكنّ الشاعر لم يشأ ان يواصل الحياة في المنفى الكبير، الذي لا بيت فيه ولا عتبة ولا نافذة يطلّ منها على سماء الذكريات. شاء الشاعر ان يعود الى رام الله ليحيا حياة تشبه الحياة، حياة هي وهم حياة. ولم يشأ ايضاً ان يبتعد عنها عندما يخرج منها، عائداً الى نفسه، الى وحدته والى أوراقه البيض. اختار عمّان للاقامة الموازية ولأنها على قاب قوسين من رام الله.
القضية الفلسطينية الآن أصبحت أعمق من قبل في شعر محمود درويش وفي حياته، صارت هي الظل الذي يتخلل القصائد ويقول في هذا الصدد: «انا شاعر فلسطيني، لكنني أرفض أن أُحصر بصفتي شاعر القضية».
وكلما ابتعد عنها ازداد اقتراباً منها. لقد تحرر منها ليحررها من الخطابة والصراخ اللذين لم يجديا. والشاعر الذي رفع القضية الى المرتبة الملحمية، مبتدعاً بالشعر اكثر من ارض، بات شاعر الوجود، شاعر الموت والحياة، شاعرالرؤيا والماوراء. يقول درويش: «أرفض مفهوم التكريس الشعري لأنني على قلق دائم». وعن الحداثة: «لا أدري لماذا يحصر العرب الحداثة في الشعر فقط»، مضيفاً: «لا أعرف إن كنتُ أُدرج داخل الحداثة ام خارجها». أما الشعراء الرواد فيقول عنهم انه لم يعد «قادراً على قراءة معظم شعرهم». ويرى انه لا يقرأ نزار قباني الآن بـ «البهجة» التي كان يقرأه بها من قبل.
للمرة الاولى، يكشف محمود درويش الكثير من أوراقه، بل من اسراره وخفاياه التي تصنع شخصيته وحياته وعالمه الشعري، وذلك في حوار شامل أجرته معه «الحياة»، وتنشره على حلقات بدءاً من اليوم بين محمود درويش الشاعر ومحمود درويش السياسي خط ضئيل، الواحد يكمّل الآخر، والاثنان يكمّلان رسالتهما الواحدة، بل مهمتهما الواحدة، من غير تناقض او تنافر. لكنه يتحدث عن انتخابه عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بشيء من الأسى قائلاً: «من حسنات اتفاق اوسلو انه أتاح لي الفرصة للاستقالة من اللجنة التنفيذية». والصخب الذي طالما عمّ حياة السياسي، يشبه كثيراً الصمت او الهدوء اللذين يعمّان حياة الشاعر، حياته الاخرى، شبه المجهولة. فالشاعر استطاع ان يرفع السياسة الى مصاف الابداع، والسياسي أمدّ الشعر بذلك الوعي الحادّ والمعرفة المتوقدة.
ويتحدث عن المدن التي عرفها خلال منفاه، معتبراً ان لديه «مرض الحنين الى بيروت» التي عاش فيها تجربة الحصار الإسرائيلي.
تحار من أين تبدأ الحوار مع محمود درويش. أتبدأ من شعره الذي يشغل المعترك الشعري العربي الراهن، بأسئلته وقضاياه، أم من السياسة التي مارسها وكأنها فعل إبداعي؟ أم من تقاطع الذاكرة الخاصة مع الذاكرة العامة أو الوجدان الذاتي مع الوجدان الشعبي؟
لا يحتاج الحوار مع محمود درويش الى ذريعة. تاريخ هذا الشاعر هو أكثر من تاريخ وحاضره أكثر من حاضر. هو الآن أكثر الشعراء العرب رواجاً وانتشاراً، لكنه في الوقت نفسه من أشد الشعراء انطواء على أنفسهم وإصغاء الى صمتهم الداخلي. هذا الشاعر «الجماهيري» هو شاعر حديث جداً وطليعي وذو نزعة اختبارية. أمسياته التي تجذب دوماً جمهوراً غير متوقع، في عاصمة عربية وأخرى، تدل على قدرة قصائده على اختراق الذاكرة والمخيلة معاً. لكن الشاعر، عوض أن يستسلم لجمهوره الكبير يرتقي به الى مصاف التلقي الحقيقي. فالتصفيق المدوي تظل تردده الصالة الكبيرة، لكن الشعر وحده هو الذي يفعل فعله. وربما لم يُؤتَ لشاعر أن يكون جماهيرياً ونخبوياً في آنٍ واحد، وأن يكون قريباً من قرائه وبعيداً منهم، مثلما أوتي لمحمود درويش. هذا الشاعر التراجيدي المنبت استطاع أن يكون شاغل الناس وشاغل الشعراء والنقاد والقراء على اختلاف أمزجتهم. لا يحب محمود درويش كلمة «جمهور» أو «جماهير»، يفضل كلمة قارئ أو قراء. هذا ما بات واضحاً الآن تمام الوضوح. يحس الشاعر انه يكتب لنفسه مثلما يكتب لقارئه. انها المعادلة الصعبة التي حققها محمود درويش، صانعاً من الشعر ذاكرته وذاكرة قرائه، ذاكرته وذاكرة الأرض المجروحة. ولئن كان ولا يزال شاعر القضية فهو نجح في تحمل عبء هذه الصفة أو الكناية من غير أن يتخلى عنها لحظة. بل هو عمّق هذه الصفة حتى أضحت مغروسة في تراب الماضي - الحاضر. انه الشاعر أولاً وأخيراً وربما الشاعر فقط، سارق النار ومضرمها، الشاعر السري المتجذر في أرض الحلم والمنفتح على شمس الرؤيا. الشاعر الذي جعل من مأساته التي هي مأساة أرضه، ملحمة تراجيدية، تمتزج فيها النبرة الغنائية العالية والصوت الانساني الخافت. حياة صاخبة، شعراً وسياسة وأمسيات وأضواء، تقابلها حياة هادئة جداً مفعمة بالصمت والتأمل.
عندما دخلت بيت محمود درويش في عمان، فوجئت بالهدوء الذي يرين عليه، وبالصمت الذي يحياه هذا الشاعر – الرمز. وحين سألته عن المصعد المعطل في البناء، استغرب، واستغربت أكثر عندما قال لي انه لم يخرج من البيت منذ ثلاثة أيام. يعيش محمود درويش وحيداً بين بيته في عمان وبيته في رام الله. هذه الوحدة لا تكسرها سوى الخادمة الفيليبينية التي تقصده ظهر كل يوم لتنهي الواجبات المنزلية وتغادر. إلا ان بيت الشاعر ليس بارداً ولا خاوياً مثل بيوت العازبين عادة. ثمة ضوء في هذا المنزل ولو كانت الشبابيك مغلقة، وثمة دفء روحي وطمأنينة. مع ان الشاعر الكامن في أعماق محمود درويش لا يعرف الاطمئنان ولا السكينة. شاعر قلق، لا يضع المفتاح في قفل الباب عندما يستسلم للنوم ليلاً. وكي يبدأ نهاره يحتاج الى المزيد من الوقت. الصباح المتأخر قليلاً هو إما للكتابة أو للقراءة. أما النهار فيبدأ بعد الظهيرة.
لا ذريعة لمحاورة محمود درويش وإن صدرت قبل أيام أعماله الكاملة في أربعة مجلدات، وفي طبعة هي الثامنة عشرة. وقبلها صدر ديوانه البديع «كزهر اللوز أو أبعد» وفيه تتجلى تجربته الفريدة التي وضعته في مقدم الشعراء المحدثين والجدد والباحثين عن معادلة شعرية جديدة، وعن لغة مجهولة وجماليات ملؤها الدهشة. وقبل هذا الديوان كانت صدرت أيضاً أعماله «الجديدة» في مجلد خاص (دار رياض الريس).
يظل محمود درويش متجدداً باستمرار، والحوار معه أشبه بالرحلة الى عالم ملتبس بين الواقع والتاريخ والحلم والجمال... وها هو يفتح «دفاتره» لـ «الحياة».
مواضيع مماثلة
» محطات في حياة محمود درويش
» محمود درويش
» محمود درويش _ الى أمي
» سجل --- انا عربي (محمود درويش )
» فلسطين - محمود درويش
» محمود درويش
» محمود درويش _ الى أمي
» سجل --- انا عربي (محمود درويش )
» فلسطين - محمود درويش
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2021-01-27, 6:48 pm من طرف مازن محمد خالد
» معلومات قبل شراء كاميرات المراقبة
2021-01-14, 6:20 pm من طرف مازن محمد خالد
» انظمة الصوتيات والاذاعه الداخلية
2020-12-28, 9:33 pm من طرف مازن محمد خالد
» لسه مركبتش كاميرات مراقبة ادخل والحق العروض
2020-12-05, 11:12 pm من طرف مازن محمد خالد
» افضل كاميرات مراقبة VACRON
2020-11-07, 8:20 pm من طرف مازن محمد خالد
» سنترالات باناسونيك وعروضها
2020-10-20, 5:00 pm من طرف مازن محمد خالد
» كاميرات المراقبة المنزلية /اسعار كاميرات المراقبة المنزلية
2020-10-07, 7:18 pm من طرف مازن محمد خالد
» احدث انواع وماركات كاميرات المراقبة
2020-09-10, 7:47 pm من طرف مازن محمد خالد
» افضل العروض علي اسعار كاميرات المراقبة
2020-08-13, 7:48 pm من طرف مازن محمد خالد
» شركة تركيب كاميرات مراقبة باقل الاسعار
2020-07-13, 8:12 pm من طرف مازن محمد خالد