علاج الادمان النظري

من طرف ثمامه طعمه 2008-01-26, 5:56 am

علاج الإدمان النظري

قبل عدة أسابيع شاهدت مقابلة تلفزيونية رائعة مع الروائي البرازيلي الشهير باولو كويلو، الروائي الذي كتب عدة روايات جميلة حقاً، ربما كان اشهرها رواية «الخيميائي»، وهي التي جلبت له الشهرة والمجد والثروة. في البدء يقول انه لم يجد ناشراً للرواية، فهو جديد على الصنعة، ولا أحد يعرفه كروائي. غامر أحد الناشرين وقام بنشر رواية الخيميائي، في البدء لم تنجح الرواية، واشتكى الناشر من تورطه في نشر هذه الرواية..! لكنها من شخص لآخر بدأ الناس يتكلمون عن الرواية، حتى انتهى بها المطاف أن تترجم إلى 51 لغة، وتباع في اكثر من 150 دولة وبيع من هذه الرواية أكثر من 21 مليون نسخة. وباولو كويلو روائي مثير للجدل، فقد ولد في ريو دي جانيرو في البرازيل سنة 1947، وبدأ حياته كاتباً للأغاني الشعبية، قبل أن يترك هذا العمل ويصبح هيبياً في الستينيات والسبعينيات، مدمناً على المخدرات.. يعيش حياة بوهيمية، حتى عاد مرة أخرى وتدين، وأصبح مواطناً مسيحياً كاثوليكيا صالحاً- كما قال في تلك المقابلة -، وكتب بعد تلك الرواية التي أشهرته، وجعلته من أصحاب الملايين روايات عديدة، لا أبالغ اذا قلت بأن جميع رواياته جميلة، سهلة الاسلوب، بها شيء يريد أن يقوله المؤلف لمن يقرأ رواياته.! وقد شاهدت المقابلة، التي حقيقة استمتعت بها استمتاعاً كبيراً، لأني للتو قد انتهيت من قراءة جميع رواياته.! وشكراً للصديق الذي دلني على هذا الروائي المتميز ورواياته الرائعة، فقبل عام لم أكن أعرف أي شيء عن باولو كاولو سوى أنه روائي برازيلي كتب رواية شهيرة اسمها الخيميائي.. ليس أكثر من ذلك، ولكن هذا الصديق طلب منى أن أجرب وأقرأ رواياته، وحسناً فعل، فقد اشتريت جميع روايات باولو كويلو وقرأتها، وربما أعجبني أكثر بعضاً من رواياته غير الخيميائي التي اشتهر بها مثل «الزهير» و«احدى عشرة دقيقة»..!

أعود إلى المقابلة التي سأله فيها المذيع اللبناني عن تعاطيه للمخدرات، وعن محاربة المخدرات التي تقوم بها الدولة، فقال: دعك من هؤلاء أنهم يحاربون المخدرات وهم لايعرفون عنها شيئاً.. فكل ما يعرفونه عنها نظرياً..! أنا وأمثالي الذين أدمنوا المخدرات ثم أقلعوا هم الأقدر على محاربة المخدرات، لأننا نعرف ماذا يعني التعاطي للمخدرات، وماذا يعني الإدمان على المخدرات، بينما الآخرون كل ما يعرفونه هو دروس نظرية..!!

والمخدرات في ريو دي جانيرو مشكلة صعبة، وقد زرت هذه المدينة عام 1993م، وهي مدينة تحوي المتناقضات، الفقر المدقع إلى أبعد حد.. شوارعها مليئة بأطفال مشردين ليس لهم أهل.. تنتشر الدعارة والمخدرات والجريمة في هذا المجتمع، ولعل الفيلم البرازيلي الرائع الذي أنتج قبل عدة سنوات عن الجريمة والمخدرات في مدينة ريو دي جانيرو يبين العنف الرهيب الذي تعيشه المدينة الجميلة بسبب تجارة المخدرات، وكيف أن المخدرات تصنع أكبر الجرائم وتخلق مجتمعاً عنيفاً لا يرحم الأطفال ولا الضعفاء، وعلى هامش هذه المشاكل تنتشر الدعارة بكل مساوئها وكذلك الفقر الذي يجعل الاشخاص يبيعون كل شيء حتى أنفسهم وأعراضهم من أجل بضعة دولارات..! إنه فيلم يستحق المشاهدة لمعرفة كيف هي المخدرات وكيف تأثيرها على المجتمع وما هي نتيجتها على المجتمعات..!

أعود إلى ما قاله باولو كويلو في مقابلته عن أن الاشخاص الذين يستطيعون علاج ومحاربة المخدرات هم الاشخاص الذين مروا بهذه التجارب، أما الذين كل معرفتهم هي نظرية عن طريق الكتب والمحاضرات، فهم أضعف وأقل قدرة على علاج الاشخاص الذين وقعوا في براثن المخدرات..!

ربما هناك جزء من الحقيقة في كلام بالو كويلو من ناحية العلاج، فقد ثبت حتى الآن أن علاج المتعافين من الإدمان هو أفضل علاج للمدمنين. وفي جميع أنحاء العالم تقريباً هناك جمعيات أهلية تسمى جمعيات المدمنين السابقين المجهولين، حيث يجتمع المدمنون التائبون في أماكن عامة، يقول كل منهم اسمه الأول، ويتحدث عن تجربته مع المخدرات، وكيف وقع في براثن الإدمان (الكحول طبعاً هي أكثر المخدرات فتكاً في المجتمعات نظراً لكثرة ضحاياها، وأنها مقبولة في كثير من المجتمعات، لذلك فعندما نقول المخدرات نشمل في هذا التعريف الكحول، كواحد من أخطر المخدرات..!). وقد بدأت هذه الجمعيات مع المتعافين من إدمان الكحول، وكانت تسمى هذه الجمعيات بجمعية «مدمني الكحول المجهولين» (Alcoholics Anonymous) وتختصر عادة ب AA. وعندما كنت أتدرب في أدنبرة في مراكز علاج الإدمان، كنت أحضر هذه الاجتماعات، والحقيقة إنها كانت مفيدة جداً، ثم أن الأمر تطور في هذا المجال نظراً للنجاح الذي حققته هذه الجمعيات في استمرار بعد المدمن عن المخدر، فتم إنشاء جمعيات لأبناء المدمنين، ثم لأزواج المدمنين (رجالاً ونساًء). وعادةً يكون المدمنون السابقون الذين تم شفاؤهم الذين يديرون هذه الاجتماعات، وهي كما أسلفت واحدة من أهم أسباب إقلاع المدمنين واستمرار ابتعادهم عن المخدرات، ودورهم مهم جداً في العلاج.

ثمة أمر لا بد من التعريج عليه هنا، وهو أن الأشخاص الذين لم يعرفوا الكحول وأنواعها والمخدرات وانواعها وطرق استخدامها سوى عن طريق الكتب، يظل هناك حاجز بينهم وبين من يتعاطون المخدرات، نظراً لأن المعالجين من أطباء واختصاصيين الذين يعالجون المدمنين، ينظرون نظرة دونية إلى المدمن..! وكذلك بعض منهم لا يستطيع تقدير صعوبة الإدمان، ومدى الألم الذي يعاني منه المدمن للتخلص من ما يتعاطاه من مخدرات..!

وبعض منهم يملك معلومات نظرية هائلة، من الكتب، عن نظريات الإدمان، وطرق سير المخدر في الدماغ، والأجهرة الأخرى في الجسم، لكنه على الجانب الواقعي لا يعرف شيئاً على الإطلاق، عن معاناة المدمن، وبعض الذين جاءوا من مستوى ثقافي متدين، ملتزم، لا يعرفون شيئاً عن أنواع الكحول والمخدرات، وهذا يجعل تعاملهم مع المدمنين به شيء من الصعوبة في معرفة كيفية التعامل مع هؤلاء المدمنين، ومدى معاناتهم وصعوبة تركهم للمخدرات، لذلك تجد نتائج العلاج متدنية..!

لقد مررت بتجربة طريفة مع أحد الزملاء والذين تخصصوا في علاج الإدمان، وعرضت عليه بعض المواد المخدرة المشهورة والمعروفة، ولكنه للأسف لا يعرفها.. فهو درسها في الكتب، وشاهد صوراً لها في الكتب، ولكن على أرض الواقع ليس له أي احتكاك بالمخدرات..!

لقد شاهدت البروفيسور إدوارد، وهو الشخص الذي وضع الخصائص السبعة المعروفة عالمياً بخصائص الإدمان على الكحول، وتسمى خصائص إدوارد نسبة له (Edward.s Criteria)، وقد كان يرتجف عندما رأيته في محاضرة أقيمت على شرفه، وقد كان متقاعداً منذ سنوات، فسألت زميلاً يعمل في مجال الكحول فقال لي بأن بروفيسور إدوارد مدمن على الكحول..!!؟؟ وهذه انسبها إلى زميلي هذا والذي يعمل أيضاً في مجال علاج الإدمان على الكحول، لكنه كل مساء ينتظر أن تغرب الشمس حتى يبدأ في صف قوارير الشراب، والمزات العربية وكؤوس المدام.. فهو متخصص في علاج الإدمان على الكحول لكنه كل مساء يتجرع الكحول على انغام ام كلثوم، ويتحدث بكل ثقة عن علاج الإدمان، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عن أنواع الكحول بدءاً من تصنيعه وانتهاء بكيف يخرج من الجسم..! ومع هذا فهو طبيب ناجح في تخصصه..!!