النشمــــــــي القائد المناضل أبو إياد

وتلك هي سيرة حياة القائد الفلسطيني المناضل صلاح خلف 'أبو إياد' التي انبعثت مع اطلالة الوليد في 31 أغسطس عام 1933، والتي كانت لاستشهاد صاحبها في 14 يناير عام 1999 أن يبث في عروقها أنساغا تكثف حضورها


أبو إياد .. مناضل صلب .. وقائد من الطراز الأول


في ذكري مرور عشر سنوات علي استشهاد القائد الفلسطيني البارز صلاح خلف 'أبو إياد'، تنشر 'الأسبوع' هذا الملخص الذي أعده بتصرف الزميل 'بهاء حبيب' عن دراسة بالغة الأهمية للدكتور عبد الرحمن بسيسو.. يتعرض فيها لسيرة هذا المناضل العطرة، والتي تضرب المثل في التضحية والفداء من أجل الوطن وقضية الشعب الفلسطيني المجاهد.

في المسافة الممتدة ما بين حي 'الحمام المحروق' المواجه لبحر يافا، وقمة تلة التونسية تحتضن ضريحا يجلله علم فلسطين، وتحيطه خضرة شاسعة، توجد أزمنة ومسافات، تحتضن سيرة حياة تجسد نصف قرن من مسيرة شعب أبي إلا أن يواجه الموت من أجل بعث الحياة، وتلك هي سيرة حياة القائد الفلسطيني المناضل صلاح خلف 'أبو إياد' التي انبعثت مع اطلالة الوليد في 31 أغسطس عام 1933، والتي كانت لاستشهاد صاحبها في 14 يناير عام 1999 أن يبث في عروقها أنساغا تكثف حضورها المتألق في ذاكرة الشعب الفلسطيني، وفي صلب مكونات هويته الوطنية التي يصوغها بدم قلبه، بانتفاضته الدائمة، وببسالة أبنائه وبناته التي تضيء رؤيته، وتفتح آفاق مستقبله ورؤاه.
في الثالث عشر من مايو عام 1948، عام النكبة الكبري أفضت المجازر وأعمال الإبادة الجماعية التي واصلت عصابات الهاجاناه 'الجيش الرسمي للوكالة اليهودية' تنفيذها بحق الشعب الفلسطيني في مدينة يافا إلي اقتلاع آلاف الأسر الفلسطينية من بيوتها لتلقي في البحر، تحت وابل كثيف من القذائف التي تملأ سماء يافا وتغطي بحرها.
وكانت أسرة الشبل صلاح خلف المنخرط منذ عامين في فرع الأشبال بمنظمة النجادة المقاومة للهاجاناه واحدة من الأسر التي لم يبتلعها البحر، حيث تمكنت من الصعود إلي مركب متهالك حملها إلي شاطئ غزة.
لم تحمل الحياة في غزة للفتي الفلسطيني المقتلع من مدينته يافا ولأسرته إلا قسوة المنفي وضراوته، وكذلك هي الحال بالنسبة إلي جميع الفلسطينيين الذين اقتلعتهم الصهيونية من بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم.
وإزاء الحاجة الماسة لتوفير مبلغ من المال يكفي لتأمين مسكن واعاشة لأسرة مكونة من سبعة أفراد، كان علي الفتي صلاح وشقيقه عبدالله أن يبادرا من دون اطلاع الأب علي الأمر، إلي البحث عن عمل يحصلان منه علي أجر يمكنهما من تأمين حياة كريمة لأسرتهما، فتمكن الشقيق الأكبر من العمل كاتبا في ورشة للنجارة بينما تمكن صلاح من إيجاد عمل في مصنع للكراسي.
وعلاوة علي ذلك كان صلاح وشقيقه يقطعان مع مطلع كل صباح ما لا يقل عن خمسة كيلو مشيا علي الأقدام لتلقي العلم والمعرفة في مدرسة اكتظت فصولها بالتلاميذ وان يذهبا إلي العمل فور خروجهما، واستمر الحال بصلاح هكذا حتي حصل في عام 1951 علي شهادة تؤهله للالتحاق بالجامعة، فالتحق في العام نفسه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
منطلق النضال
ولم يكن العام 1951 بالنسبة إلي صلاح خلف الشاب عاما لبدء الحياة الجامعية والتحصيل العلمي فقط، وإنما كان أيضا منطلقا لنضال وطني لم يكف أبدا عن التصاعد والارتقاء علي امتداد أربعة عقود جسدت التاريخ الشخصي لإنسان فلسطيني اقتلع من وطنه، فما أطال الوقوف حتي أدرك ان بناء ذاته وصوغ هويته، لا ينفصلان عن الزام نفسه علي نحو صارم وعنيد بالعمل علي انهاض شعبه لمواجهة الموت المحدق به في المنافي وتحت نير الاحتلال الصهيوني البغيض، وذلك عبر الانخراط في حركة تحرر وطني تحشد طاقات الشعب وموارده، وتصوغ هويته الوطنية في مواجهة المحتل.
وقد كان للعقد الأول من بين هذه العقود الأربعة، أي عقد الخمسينيات أهمية حاسمة وتأسيسية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وذلك علي المستويات التنظيمية والفكرية والسياسية، فخلال العام الأول من هذا العقد التقي صلاح خلف طالبا فلسطينيا يدرس في كلية الهندسة، ولم يكن هذا الطالب إلا ياسر عرفات.
ويبدو أن التعرف إلي ياسر عرفات كان منطلقا لبدء العمل النضالي المشترك علي مستويين: معلن وسري، أما المستوي المعلن فقد تجسد في العمل ضمن إطار رابطة الطلاب الفلسطينيين، بينما شرع المستوي الثاني في التبلور من خلال المناقشات التي تواصلت علي امتداد بضع سنوات بين الشابين ياسر عرفات وصلاح خلف وشباب آخرين غيرهما والذين شكلوا في سبتمبر عام 1952 قائمة 'أنصار رابطة الطلاب' وهي القائمة التي جسدت شكلا من أشكال الوحدة الوطنية وقد فازت هذه القائمة بالانتخابات وجري تعيين ياسر عرفات رئيسا وصلاح خلف نائبا له .. وتشكلت هذه القائمة علي مبدأ أساسي هو انه 'ليس للشعب الفلسطيني، الساعي لتحرير وطنه والعودة إليه أن ينتظر شيئا ذا مغزي من الأنظمة العربية في معظمها، كما أنه يخطيء تماما ان هو واصل المراهنة علي الأحزاب السياسية القائمة، وليس لهذا الشعب ان يعتمد إلا علي نفسه، عبر الانخراط في حركة تحرر محض وطنية جامعة ومستقلة كليا وتكرس نفسها تكريسا تاما لتحرير فلسطين'.
مثل العمل في إطار رابطة الطلاب، بل وقيادة هذا الإطار النقابي السياسي، مجالا حيويا خصبا وملائما للتحرك علي المستويين المتكاملين: المعلن والسري .. فعلي المستوي الأول خاضت الرابطة نضالا متواصلا من أجل الدفاع عن حقوق الطلاب وتوفير حاجاتهم الأساسية وتلبية مطالبهم المبررة، وقد قدمت قيادة الرابطة تضحيات بالغة لعل أبرزها التعرض للاعتقال والسجن والتعذيب.
الانخراط في النضال
كانت الفترة الممتدة من العام 1952 حتي منتصف العام 1956 فترة تمهيدية تركز النشاط فيها علي العمل الطلابي والنضال السياسي وعلي بلورة أفكار ومبادئ نضالية عامة يمكن ان يلتف حولها شباب فلسطينيون متحمسون ومستعدون للتضحية يجري انتقاؤهم بحرص وتدقيق شديدين، ويتصل بهم في سرية تامة، وذلك تمهيدا لاشراكهم في تأسيس الهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل المزمع إنشاؤه.
وفي يوليو 1956 حدث منعطف حقيقي بالغ الأهمية علي اكثر من مستوي وصعيد وقد تجسد هذا المنعطف في إعلان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، وبعد ذلك حدث العدوان الثلاثي علي مصر وفي اثره شكلت رابطة الطلاب الفلسطينيين كتيبة فدائيين لتسهم إلي جانب المتطوعين المصريين في مقاومة هذا العدوان، ونظرا لأن السلطات المصرية لم تسمح بذهاب صلاح خلف إلي قناة السويس ضمن كتيبة الفدائيين فانه تطوع في المقاومة الشعبية حيث أسندت إليه مهام دفاعية من قبيل حراسة جسور القاهرة، كما أنه عمل بالتعاون مع طلاب آخرين علي ادخال المال والسلاح والمنشورات التعبوية والتحريضية إلي مدينة غزة المحتلة من قبل الصهاينة إسهاما في جهود جبهة المقاومة.
تسمية فتح
كانت الأشهر الأولي من العام 1957 نهاية فترة وبداية أخري فقد أنهي صلاح خلف دراسته الجامعية التي كان قد مددها للحصول علي دبلوم التربية من جامعة الأزهر، وكان عليه أن يسعي للحصول علي وظيفة. وكذلك كان ياسر عرفات وخليل الوزير 'أبو جهاد' قد ذهبا للعمل في الكويت وما لبث فاروق القدومي 'أبو اللطف' أن لحق بهما في حين أن كلا من محمد يوسف النجار 'أبو يوسف' وكمال عدوان 'أبو رامي' ومحمود عباس 'أبو مازن' قد انتقلوا إلي قطر للعمل فيها.
ويبدو أن الاتفاق علي الطابع العام للهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل الذي يجري انشاؤه وعلي اسمه كان قد تم بين هؤلاء الأشخاص المتخرجين لتوهم في الجامعات وربما بمشاركة آخرين وفي هذا الصدد يذكر صلاح خلف أنه ورفاقه المقيمين في الخليج كانوا قد اتفقوا قبيل مغادرتهم القاهرة علي أن يأخذ هذا الهيكل طابع الحركة 'حركة تحرير فلسطين' وأن تأتي التسمية من الأحرف الأولي والتي اتفق علي قلبها عند تركيب الكلمة لتصبح 'فتح'.
وبناء علي التوجه نحو تعزيز العمل علي استكمال بناء الهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل وتوسيع رقعته الجغرافية ليشمل مناطق الوجود الفلسطيني سعي صلاح خلف علي وظيفة في مجال التعليم في قطاع غزة، مما أثار حفيظة سلطات الأمن المصرية التي افترضت أن هذا السعي غير منفصل عن نيات مسبقة غير سوية بالنسبة إليها، وهي نيات ترتبط بالسلوك النضالي لهذا الشاب الخطر!
فعين صلاح خلف مدرسا للغة العربية في مدرسة الزهراء الثانوية بقطاع غزة وهو الأمر الذي يخرق القاعدة المتبعة التي تنص علي ضرورة ألا يعمل في مدارس البنات إلا الرجل المتزوج. ويبدو أن هذا التعيين قد أزعج صلاح خلف الشاب الذي نشأ علي تقاليد مجتمع إسلامي تقليدي لا يتيح الاختلاط ما بين الجنسين في الحياة العامة.
ولم يكن للعمل في مدرسة للبنات أن يثبط عزيمته أو يحبط عزمه علي متابعة عمله النضالي وتأدية المهام التي اتفق عليها مع رفاقه رغم أنه لم يدم عمله في مدرسة البنات إلا ستة أشهر نقل بعدها إلي مدرسة خالد بن الوليد الثانوية وهي مدرسة للصبيان كانت تقع في ذلك الوقت خارج مدينته، وأغلب طلابها من اللاجئين المقيمين في مخيمات اللجوء القريبة منها والتي انشأتها وكالة الغوث علي عجل لإيواء الفلسطينيين المقتلعين من الجزء المحتل من فلسطين، وفي مقابل عدم تلبية مباني المدرسة ومرافقها للحد الأدني المناسب من الناحية الصحية أو التعليمية شكل طلاب المدارس من اللاجئين الفقراء المنفيين والذين يتحرقون لانطلاق النضال الوطني من أجل تحرير فلسطين والخلاص شروط واقع اجتماعي وإنساني متردي ومذل مجالا حيويا خصبا لاستمرار صلاح خلف في نشاطه الهادف إلي انهاض الوعي السياسي واكتساب المزيد من الأعضاء والمناصرين.
وعلي مستوي العمل المعلن لانهاض الوعي السياسي عبر الممارسة يذكر صلاح خلف أنه شكل مع الطلاب لجنة معونة للثورة الجزائرية، وأنه دعا الطلاب إلي الاسهام في جمع المال فاستجابوا للنداء، رغم بؤسهم وعجزهم، مما أشعل في نفسه الاحساس بأن هؤلاء الطلاب المتطلعين للعودة إلي وطنهم عبر مناصرة الثورة الجزائرية مستعدون بلا أدني ريب لبذل أقسي التضحيات وأغلاها من أجل تحريره.
إضافة إلي هذا الأسلوب لجأ صلاح خلف إلي استثمار مهاراته الأدبية لتعميق الوعي النضالي لدي طلابه وعلي نطاق المجتمع الغزي بأسره فكتب في العام 1958 مسرحية بعنوان 'أيام مجيدة' بناها علي استلهام تجربة اقتلاعه وأسرته من يافا والقائهم في البحر ليتشبثوا بأخشاب مركب متهالك لحملهم إلي شاطئ غزة، ويبدو أن نجاح هذه التجربة دفع صلاح خلف إلي تكرار التجربة مرة أخري في مسرحية 'المحاكمة' التي قدمها بأسلوب نقدي تهكمي ساخر تحاشيا للرقابة التي لم تكن تسمح بتوجيه نقد مباشر ومعلن للأنظمة العربية.
لم تكن تجربة صلاح خلف الأدبية وموهبته المسرحية والأنشطة التي رعاها لدعم الثورة الجزائرية إلا جانبا صغيرا من الجزء الطافي من جبل الجليد، أما ذلك الجزء الرئيسي الخفي فقد تركز في تجنيد المناضلين واعدادهم سريا وفق نمط التنظيم العمودي. وقد تمكن صلاح خلف خلال فترة تقارب العامين وبتروي عال وحذر شديد من تجنيد عدد غفير من الأعضاء والاشراف علي تزويدهم بالاعداد الفكري والسياسي وتأهيلهم لممارسة العمل النضالي المزمع اطلاقه.
وفي منتصف العام 1959 انتقل صلاح خلف بناء علي طلب ياسر عرفات للعمل في الكويت وذلك لتوفير مرتب مجزي يكفي لتلبية الحاجات المعيشية لشاب متزوج حديثا، ولاستقطاع جزء من هذا المرتب لتمويل العمل النضالي.
وفي العاشر من أكتوبر 1959 وفي منزل سري بالكويت بدأ مؤسسو فتح وضمنهم صلاح خلف أول سلسلة من الاجتماعات التأسيسية ثم مؤتمر تأسيسي مصغر لإجراء مناقشات ومشاورات واعداد وثائق خاصة بالحركة والعمل التنظيمي.
وفي هذا المؤتمر المصغر تم الاتفاق علي تأسيس جهازين مركزيين متلاحمين: سياسي وعسكري وذلك وفق هيكلية هرمية تبدأ بالخلايا القاعدية.
يذكر صلاح خلف الذي أنيطت به مسئولية مركزية عن التنظيم أن السرية المطلقة كانت هي القاعدة التي حكمت جميع النشاطات في المنظمة.
وعلي مستوي العمل علي انهاض الوعي الوطني وتعزيزه لدي الجماهير الفلسطينية والعربية عمد مؤسسو فتح باسهام تحريري مميز من قبل صلاح خلف وخليل الوزير إلي اصدار مجلة غير دورية تكون منبرا علنيا للحركة السرية، ونظرا لمراوحة مؤسسي فتح في ترجيح أحد اسمين مناسبين لهذه المجلة فقد صدر عددها الأول في بيروت في اليوم الأول من أكتوبر 1959 وهي تحمل اسمين أولهما رئيسي 'فلسطيننا' وثانيهما فرعي 'نداء الحياة'.
في السنوات الأولي من عقد الستينيات، وفي إثر حملة التوعية السياسية التي اطلقتها مجلة فلسطيننا باشراف صلاح خلف وخليل الوزير زاد الاستياء الشعبي علي الصعيدين الفلسطيني والعربي من مختلف الأنظمة بسبب لامبالاتها إزاء القضية الفلسطينية، وشرع الشباب الفلسطينيون يكونون علي نحو عفوي منظمات وتشكيلات سياسية يودون ان تجسد آمالهم في تحرير وطنهم والعودة إليه، أو يسعون للتعرف إلي فتح والانخراط في صفوفها.
وهكذا شرع مناضلو فتح وقادتها في تسريع الخطي لفتح الطريق أمام ممارسة هذا الكفاح والذي يذكر صلاح خلف أنهم كانوا يعدون له 'إعدادا محموما' بحسب وسائلهم ومواردهم المتواضعة.